منيرة أحمد الطيار

 

كان يعلم محمد، اسم مستعار، أنه حامل لجينات الثلاسيميا، ولكنه تجاهل الأمر وشرع فيزواج ابنة عمه أسماء، اسم مستعار، ولم يخبر أحدًا خشية العار والفضيحة، غير أنه بتلك الخطوة كان سببًا في ولادة طفلة مريضة بالثلاسيميا.

بيد أن محمد، الذي ينحدر من ريفٍ ناءٍ بمحافظة عمران التي تبعد عن صنعاء حوالي 50 كم، أرجع مرض الطفلة إلى والدتها أسماء، حيث قام بتطليقها، والتخلي عن طفلته، والتزوج بأخرى لإنجاب أطفال أصحاء، ليثبت أن المرض الذي أصاب طفلته ما هو الا بسبب أسماء وجيناتها فقط، ولا علاقة له بذلك، في إنكار واضح للحقائق العلمية التي تقول أن الأب ناقل للمرض إذا كان الشريكان من زواج الأقارب حاملين للمرض.

لحظة إدراك

تحكي أسماء: "فرضت عليّ الأسرة الزواج من ابن عمي محمد وأنا في الخامسة عشر من عمري ولم أكمل تعليمي المدرسي، وبعدها بتسعة أشهر أنجبت فاطمة، ولكنها كانت شاحبة الوجه، متعبة، عيناها مُصفَرة، وليست كبقية الأطفال".

"كان ينتابني الخوف"، تقول أسماء، "أردت الذهاب بها للمستشفى والاطمئنان على صحتها، لكن الجميع رفضوا وردوا عليَّ: عادها جاهلة (طفلة)ما فيها شيء، عتكبر وتتباخر، حاولت الاقتناع والانصياع، لكني كنت ألاحظ فيها الضعف،شحوب الجلد، اصفرار وتشوهات في عظام الوجه، بطء النمو، انتفاخ في البطن، والبول الداكن".

"بدأ بشتمي وإرجاع اللوم عليّ في مرض ابنتنا، وكان يردد: ما يجي من وراكنّ إلا المصائب"

أسماء التي بدت قلقة أكثر،بعد أن أصبح عمر طفلتها سته أشهر، أخذتها لمستوصف القرية للتأكد من حالتها الصحية، وصرف لها الطبيب فيتامينات وطمنها أن طفلتها بخير، لكنها مرضت مجددًا وبشدة بعد أسبوع، "فاضطررنا لإسعافها لإحدى مستشفيات العاصمة صنعاء، وكانت نتيجة الفحوصات أنها مصابة بمرض الثلاسيميا، وشرح لنا الطبيب المرض،

وأن علينا الاعتناء بها ونقل الدم لها كل 3 أسابيع، وأيضًا حذرنا من إنجاب طفل آخر كوننا أقارب، وأن سبب المرض هو زواجي من ابن عمي".

تخلي وازدراء

تصف أسماء الصدمة بقولها: "اشتاط محمد غضبًا، وبدأ بشتمي وإرجاع اللوم عليّ في مرض ابنتنا، وخلال علاج ابنتنا الذي استمر أسبوع، لم يكن ينظر لوجهي أو لوجه فاطمة، فقط كان يردد: ما يجي من وراكنّ إلا المصائب".

تقول الفتاة العشرينية: "حاولت استجماع قواي وأخبرته أنني لست السبب، كما شرح لنا الطبيب، وأن السبب وجود جينات لدي ولديه، صفعني وقتها وقال: تشتي تردي العلة مني، وطلقني وأوصلني بيت أهلي أنا وفاطمة، وذهب للزواج بأخرى، وتحملت بمفردي رعاية فاطمة، وكانت أسرتي تنظر لي بازدراء لأني أنجبت طفلة مريضة، وكم هددوني برميها لأبوها وتزويجي من آخر، حتى لا أبقى عالة عليهم أنا وطفلتي".

أسباب المرض تأتي بالوراثة وانعدام الوعي المجتمعي بأهمية الحد من زاوج الأقارب والفحص ما قبل الزواج، حيث يقدر بـ 50% في المناطق الريفية

بعد ثلاثة أشهر من الصمت والتحمل وظهور أعراض الاكتئاب من التنمر المحيط بأسماء، حد قولها، توفت الطفلة لعدم قدرة الأسرة على السفر وعلاجها بعد تفاقم وضعها الصحي، لتتضاعف في أسماء ملمات الحزن على طفلتها: "ماتت ومات قلبي معها، كيف تموت طفلتي ولا أستطيع أن أعالجها وأوفر لها العلاج، كنت أنظر لها وهي تتألم ولم يكن بيدي شيء، لا أمتلك المال للسفر، ولا يوجد لدينا في القرية مركز صحي متخصص، وأبوها تخلى عنا.. تفاقمت حالة الاكتئاب لدي فنعتني الجميع بالمجنونة، وذهبوا بي لشيوخ ومشعوذين، لكنني لم أتعافَ، فقد فقدتُ طفلتي أمامي والمجتمع كله تخلى عني لحملي الجين الخاص بمرض الثلاسيميا".

انعدام الوعي المجتمعي يفاقم المرض

من جهته، يعرف الدكتور مختار إسماعيل القباطي، مدير مركز رعاية مرضى الثلاسيميا والدم الوراثي بصنعاء، مرض الثلاسيميا بأنه "فقر دم البحر الأبيض المتوسط"، وينتقل بالوراثة، ويحدث عند التقاء جينين أحدهما من الأب والآخر من الأم، مسببًا خللًا في سلاسل البروتين الموجودة في جزء الهيموجلوبين أو خضاب الدم، ويشرح أن أسباب المرض تأتي بالوراثة

وانعدام الوعي المجتمعي بأهمية الحد من زاوج الأقارب والفحص ما قبل الزواج، حيث يقدر بـ 50%في المناطق الريفية.

الثقافة المجتمعية الغائبة بالمرض فاقمت من معاناة المريض وأسرته، فأسماء ليست الوحيدة التي عانت من تنمر المجتمع عليها، فاتن أيضًا، اسم مستعار، على الرغم من أنها تقطنفي مدينة صنعاء العاصمة، إلا أنها تعرضت للتنمر في حياتها كثيرًا، ما جعلها تنعزل عن المجتمع وتبقى حبسية المنزل.

تأثيرات نفسية للمرض

فاتن ذو الخامسة والعشرين من عمرها ولدت مصابة بمرض الثلاسيميا لأشقاء وأب وأم أصحاء، قاست الألم والمجتمع معًا، في المدرسة كان الجميع ينظر باستغراب لوجهها الشاحب الذي يبدو عليه التشوه، والعديد من الأسئلة من زميلاتها في المدرسة والجيران حول مظهرها، وكانت أحيانًا أخرى تتعب في المدرسة، وتغيب عن الوعي، وتضطر للغياب عنها أسابيع، لم تستطع الجري كبقية زميلاتها مما كان يعرضها للتنمر بأنها كسولة، فتعاملت مع الأمر بكتمان للحزن، وكل يوم تعود لتبكي وتسأل والديها: "ليش أنا هكذا وأخوتي وصاحباتي لا؟".

بلغ إجمالي عدد حالات مرضى الثلاسيميا في اليمن أكثر من 50 ألف حالة موزعة في عموم المحافظات اليمنية

والدة فاتن تقول بحزن: "فاتن خلقت مريضة بالثلاسيميا والمجتمع لم يتعاون معها، فقط زاد من معاناتها، وتنمر عليها، وجعلها تقرر الانعزال، سئمت فاتن من الشرح عن مرضها، فالمجتمع اليمني لديه قصور فهم عن المرض وعن نفسية المريض، ويتعاملون معه بتعالي وتنمر، خاصة الأمراض التي تصيب الدم، كأنه من أوجد المرض لنفسه".

الدعم النفسي ضروري

الدعم النفسي يساعد مريض الثلاسيميا في التعافي، إذ يشرح الأخصائي النفسي، صخر طه، أن مريض الثلاسيميا يتعرض لصدمة نفسية في فترة مراهقته إثر التنمر، ويبدأ في جلده لذاته، وعدم ثقته بنفسه، والهروب، والانعزال، والشعور المستمر بالخوف، وعدم القدرة على التركيز، ويصاب باضطراب وكرب ما بعد الصدمة، "لذا على أسر المصابين بمرض الثلاسيميا

دعم المريض وتشجيعه وتقديمه للمجتمع بأنه شخص غير عاجز، وعدم إشعاره بالنقص والحسرة عليه، كون الصحة النفسية للمريض تساعد مناعته للتغلب على الالم".

إحصائيات

بلغ إجمالي عدد حالات مرضى الثلاسيميا في اليمن أكثر من 50 ألف حالة موزعة في عموم المحافظات اليمنية، بحسب إحصائية منظمة الصحة العالمية، منها 29,240 حالة موزعة على خمس محافظات، هنّ: (صنعاء، تعز، الحديدة، حضرموت، حجة)، إضافة إلى أن شحة المراكز المختصة بمرض الثلاسيميا زادت من عدد المصابين في اليمن، إذ لا يوجد في اليمن سوى مركزين فقط بشكل رسمي، بحسب الدكتور القباطي،أحدهما في صنعاء والآخر في مدينة الحديدة، وهو ما لا يكفي المرضى المصابين بالمرض في اليمن بشكل كامل.

غياب بنود في القانون اليمني لضرورة فحص ما قبل الزواج ساهم بشكل كبير في زيادة حالات المرض الوراثية، ومنها الثلاسيميا

وبحسب إحصائية جمعية أصدقاء مرضى الثلاسيميا بفلسطين لعام 2020 - 2021، بلغ عدد المصابين بمرض الثلاسيميا في فلسطين 801 حالة، موزعة بين 309 حالة بقطاع غزة، و492 في الضفةالغربية، إضافة لعدد المراكز المختصة التي تصل لثمان وحدات طبية خاصة بمرضى الثلاسيميا.

أسباب تفاقم الوفيات بالمرض

ويقدرعدد الوفيات لمرضى الثلاسيميا في اليمن بنسبة 40%، بحسب الجمعية اليمنية لمرضى الثلاسيميا والدم الوراثي، بسبب الحالة الاقتصادية، الحالة المرضية والنفسية للمريض، بعد المريض عن مراكز العلاج، والإهمال في العلاج.

وعلى الرغم من وجود حالات تنمر كثيرة للنساء اليمنيات المصابات بمرض الثلاسيميا، إلا أن كاتبة التقرير لم تستطع حصرها بإحصائيات دقيقة تبين عدد النساء اللواتي تعرضنّ للتنمر والعنف بسبب إصابتهن بمرض الثلاسيميا، في ظل تكتم على المعلومات والتعنيف الذي تتعرض له المرأة اليمنية للحيلولة دون الإفصاح عن مظلوميتها.

أنفوجرافيك يوضح عدد مرضى الثلاسيميا في اليمن وعدد الوفيات

غياب بنود في القانون اليمني لضرورة فحص ما قبل الزواج ساهم بشكل كبير في زيادة حالات المرض الوراثية، ومنها الثلاسيميا، كما أوضحت الدكتورة إيمان عوض حاتم، مسؤولة الثلاسيميا وأمراض الدّم الوراثية في محافظة حضرموت، حتى أفاقت حكومة اليمن المعترف بها دوليًا، بتاريخ 29 يونيو للعام الجاري، لاتخاذ قرار بإجراء فحوص طبية قبل الزواج للحد من انتشار بعض الأمراض الوراثية، مع تزايد معدلات زواج الأقارب في اليمن، فهل يطبق اليمنيون القرار لحماية أطفالهم من المرض، أم يتحايلوا عليه ويستمروا في إنجاب المرض؟