فاطمة العبادي
"لن أدخل سوى كلية الطب"، ربما ليس غريبًا على أي طالب متخرج من الثانوية العامة طلب هذه الأمنية، ولكن الأمر مختلف عندما يكون مصدرها شابة من فئة الصم والبكم، فعلى الرغم من أن سيرينا نبيل، وهي خريجة ثانوية عامة بنسبة 99%، تتمنى دراسة الطب، لكن الأمر محتوم بدخولها كلية الهندسة أسوة بزملائها وزميلاتها من فئة الصم والبكم.
وأمام تلك المعوقات التي تعترض أحلام الصم والبكم، اختارت كوكب عبدالله، أمين عام جمعية رعاية الصم والبكم بمحافظة لحج، جنوب اليمن، أو ماما كوكب كما يناديها 120 طالب وطالبة إما بالتأتأة أو بالإشارة، أن تكون بمثابة مفتاح حياة جميلة لفئة غالبًا ما تتعرض للإقصاء والتهميش، فئة لا يستهان بها في محافظة لحج.
بداية
عام 1994م اشتركت كوكب في مشروع التأهيل في المجتمع المحلي "CBR" المنفذ من قبل منظمة رعاية الأطفال، والذي يهدف إلى تمكين الأسرة والمجتمع من تدريب وتأهيل ذوي الاحتياجات الخاصة، وإتاحة الفرص المتساوية لهم ليعيشوا حياتهم بشكل طبيعي، ويعتمد على الانتقال بالخدمات إلى المجتمع الذي يعيش فيه شخص منهم، وكانت ضمن مخرجاته العمل مع 20 طفلًا بعد الانتهاء من عملية المسح، وتم تنفيذه آنذاك في محافظات: "عدن، أبين، تعز، إب، ولحج"، وعند الانتهاء من التدريب قام المشاركين والمشاركات باختيار الفئات التي سيقومون بالعمل لأجلها، ومن هنا بدأت فكرة إنشاء جمعية للصم والبكم في محافظة لحج.
"نتلقى بين حين وآخر دعم مالي من فاعلي الخير ومن حِلف أبناء يافع، ألا إنها لا تكفي"
تقول كوكب لـ "هودج": "لقد كنت متأثرة بإحدى قريباتي وهي من فئة الصم والبكم، وأردت التقرب من هذه الفئة ومناصرتها بأي شكل، وكانت الأمور تأتي كما أريد، حيث التحقت بدورة تدريبية حول "المعالجة النطقية" في مدينة زبيد بمحافظة الحديدة غرب اليمن"، وبعد أن تعلمت فيها كوكب لغة الإشارة، عادت إلى لحج لتقوم بجمع 50 عضوًا للهيئة كنصاب قانوني لإنشاء جمعية، ونُفِذ الإشهار في مطلع سبتمبر 2006م، وبدأت بخمسة طلاب.
وبحسب كوكب، فإن هناك إحصائية تقريبية لعام 2005م لفئة الصم والبكم، تقدرهم بـ 2.5% من إجمالي السكان، حيث يبلغ عددهم 11 مليون شخص في اليمن، منهم 700 في محافظة لحج.
تحديات
تقول كوكب: "بدأت بتقديم طلب لمدير التربية والتعليم بمديرية الحوطة لتخصيص غرفة في إدارة التربية وأخرى في روضة الشروق، والتواصل مع المركز الرئيسي لجمعية رعاية وتأهيل الصم والبكم بصنعاء للتأثيث".
يخضع الطالب قبل ضمه للجمعية لفحص "تخطيط السمع" لمعرفة إذا كان أصمًا أو لديه بقايا سمعية
مكثت كوكب لأشهر طويلة دون الحصول على دعم، ما هدد ذلك الجمعية بالتوقف ولأكثر من مرة، إلا أن كوكب لم تستلم وظلت تبحث، كما تقول، مؤكدة أنه حاليًا يتم صرف مرتبات المعلمات من صندوق رعاية المعاقين التابع لوزارة الشؤون الاجتماعية والعمل، وتضيف: "نتلقى بين حين وآخر دعم مالي من فاعلي الخير ومن حِلف أبناء يافع، ألا إنها لا تكفي".
جهود
يحدثنا بلغة الإشارة رئيس جمعية الصم والبكم في لحج، مرسال عبدالله، وهو أب لطالب من فئة الصم والبكم بالجمعية: "اهتمامي الأكبر هو مستقبل الطلاب وتوفير الرعاية لهم، حيث أن ولدي أحدهم، وكوكب تبذل الكثير من الجهد والعطاء لتسيير الأمور، وبدورنا نطرق كل الأبواب، ونخاطب السلطات المحلية، ونقدم الرسائل لكل منظمة تعنى بحقوق الصم والبكم أو حقوق الطفل. نحن نمر بظروف صعبة، وأحيانًا يؤسفنا أن نوقف العملية التعليمية بسبب قلة الدعم".
تكييف التعليم
يخضع الطالب قبل ضمه للجمعية لفحص "تخطيط السمع" لمعرفة إذا كان أصمًا أو لديه بقايا سمعية، تقول كوكب، وتواصل: "إذا اتضح من الفحص أن الطالب لديه بقايا سمعية، يتم إشراكه في الصندوق لتقييد اسمه حتى يحظى بأي دعم، ويتم إلحاقه بالمدرسة لاستكمال تعليمه مع وضع بعض الضوابط لـ "تكييف التعليم"، وذلك بجلوسه في مقدمة المقاعد الدراسية، والاستعانة بالمعلم المساعد للمعلم الأساسي وبنهج القراءة، وإذا تبين أن الطالب لا يوجد لديه بقايا سمعية، يتم الاعتماد على الوسائل التعليمية وقراءة الشفاه وتعليم لغة الإشارة، ويتم ذلك في فصول الجمعية".
حرصت كوكب على البحث عن معلمات بدرجة بكالوريوس، وسعت لضمان تعاقدهنّ مع الصندوق الاجتماعي للتنمية، ثم بدأت بإدراجهنّ في دورات تدريبية لتعلم لغة الإشارة
كوكب التي تركت مهنتها الأساسية، أي التمريض، لتركز جهدها وطاقتها على فئة الصم والبكم، تقول عن سبب ذلك: "صاحب أكثر من بالٍ كذاب"، وتضيف: "لم أرزق بأولاد لكني أسمع كلمة ماما أكثر من أي أم، والحمد لله ثمرة جهدي وتعبي رأيتها بتخرج أول ثلاثة من طلاب الجمعية قبل شهر ونصف بدرجة دبلوم من كلية الهندسة، وتفوق طالبة بالثانوية العام الماضي بدرجة 99%".
تمكين حرفي
لقد حرصت كوكب على البحث عن معلمات بدرجة بكالوريوس، وسعت لضمان تعاقدهنّ مع الصندوق الاجتماعي للتنمية، ثم بدأت بإدراجهنّ في دورات تدريبية لتعلم لغة الإشارة، حتى تمكنت من جلب 24 عاملًا إلى الجمعية.
حيث تمنح إدارة الكلية الصم والبكم قاعات دراسية خاصة بهم حتى يتلقون فيها المحاضرات من قبل مترجمي لغة الإشارة
لم تكتفِ كوكب بضم الطلبة من الصم والبكم إلى دار تعليمي واحد لتلقي التعليم الأساسي والثانوي فحسب، بل استطاعت أن تزود الطالبات بحرف يدوية يتمكنّ من خلالها فتح مشاريع صغيرة لهنّ، أو بيع منتجاتهنّ في الأسواق المحلية، أو عرضها في المعارض الشعبية المتنوعة، وبدأت القصة عندما تبرعت سيدة بماكينة خياطة للجمعية للتعلم عليها، ثم قدمت 10 مكائن حياكة خاصة بصناعة المعاوز الرجالية "المآزر" يدويًا، إضافة لخيوط خاصة، وقامت كوكب بجلب مدرب خاص لتعليم الطلاب تلك الحرفة.
تجربة نافعة
وتحكي كوكب عن تجربة جديدة ابتكرتها كلية الهندسة بجامعة عدن تتمثل في توفير مترجمي لغة الإشارة للصم والبكم وفقًا للمنهج الأكاديمي الخاص بالكلية، حيث تمنح إدارة الكلية الصم والبكم قاعات دراسية خاصة بهم حتى يتلقون فيها المحاضرات من قبل مترجمي لغة الإشارة؛ "ولهذا أصبحت الهندسة التخصص الوحيد لخريجي الثانوية من الصم والبكم".
طموح
تقول كوكب: "لدينا أرضية من المجلس المحلي وبحكم من المحكمة، نريد أن نبني عليها مقرًا لهذه الفئة، وأن تتزود الفتيات بحرف تمكنهنّ من إعالة أنفسهنّ وأسرهنّ، ونطمح بإدخال أجهزة الكمبيوتر للجمعية، وأن تدخل زراعة القوقعة إلى محافظة لحج مع توفير قاعدة بيانات في المستشفى العام وربطها بالجمعيات منذ المولد، كما نتمنى إدراج لغة الإشارة ضمن التعليم الجامعي كمساق دراسي لكافة التخصصات".
وتختتم حديثها بالقول: "نرجوا أن تلتفت المؤسسات والجمعيات التي تعمل في لحج وخارجها لهذه الفئة، وأن تدعمها وتقف إلى جانبها".