طارق الظليمي
قرّرت "نجيبة محمد" فسخ خِطبتها قبل نحو 23 عامًا؛ لتتفرغ للمجال العلمي؛ هرُوبًا من شرُوع في ارتباط يُقيد حريتها، وسط توسع دائرة عزُوف النساء اليمنيات؛ خوفًا من عُنف الرَّجُل في بلدٍ يحتل المرتبة التاسعة عربيًّا بنسبة 30% لعدم زواج الفتيات، وفق شبكة تقرير الأمم المتحدة للمرأة.
تقُول نجيبة، 47 عامًا، وهذا اسمُها المُستعار، إنَّها خُطِبت في المرحلة الثانويّة، واستمرت هذه الخُطوبة حتى سنتها الجامعية الثانية عام 1998م، مشيرة إلى أَنْ خطيبها طلب منها أَن تكتفي بالدراسة الجامعية، "وأن أتفرغ للمنزل والأولاد"، عندما حدثَته عن رغبتها في إكمال الدراسات العُليا، قبل أن تتلوها عديد خطوات وقيُود لا يُمكن التَّغاضي عنها في شريك الحياة.
فسخ والتسلط
ولم تتردَّد بفسخ الخطوبة بعد هذا التسلط الذُّكوري، في فترة لا تتجاوزُ العامين، فيما شعرت بخوف شديد ذهبت معه للتركيز على تحقيق النَّجاح في الجانب العملي، حتّى وصلت لحلمها، وأَصبحت أُستاذة جامعية، رامية ملف الارتباط حاليًا.
تضيف لـ"هودج": "الفترة الحالية غير مشجعة للارتباط؛ لأنّ النضوج الشخصي يجعلك أَكثر حذرًا ناحية الارتباط مِن مُنطلق معيار النَّجاح من عدمه؛ ولأَنَّهُ لا يوجدُ رجُلٌ يُعطيني قيمة وقدرًا".
ويُقدّر عدد الفتيات اللَّواتي لم يتزوجنّ بأكثر من مليونين، بينهنّ أَكثر من نصف مليون تجاوزنّ سن الثلاثين، وفق تقرير أعده الجهاز المركزي اليمني للإحصاء عام 2014م.
كُره الرَّجُل كزوج
ولا تختلفُ محلية فؤاد، 32 عامًا، كثيرًا عن نجيبة، التي رفضت، هي الأخرى، فكرة الزَّواج مع تقدُّم عديد زملاء لها في العمل؛ "بفعل كرهها للرَّجُل كزوج، متأثرة بمعاناة والدتها، ومُعاملة والدها السَّيئة لها، حيث ظلَّت تحتمل كُل تلك القسوة كامل عُمرها؛ لتحافظ على تربية أَولادها."
وتقُول "فؤاد"، وهي مُعلمة في إحدى مدارس العاصمة صنعاء: "أكره الارتباط برجُل يحبسني بالبيت، ويُقيَّد حركتي، ويُقلِّل من كرامتي كإنسانة، ويضربُني"، في إشارة لمعايشتها معاناة والدتها. تضيَّف والحُزن طاغ على وجهها: "صبرتْ (تقصد أمها) لأجلي، ولأجل أخوتي"، مبدية شديد خوفها من تجربة مماثلة في حال تزوَّجت، مفضلة البقاء وحيدة، ومنح حياتها للشُّغل، والوصول للدراسات العُليا.
وبعكسهنّ جميعًا، لا تزال سُعاد عمر، 40 عامًا، تنتظر الزَّوج المُناسب كشريك لحياتها، تبحث فيه مواصفات تبدو بعيدة المنال في مجتمعِ تطغو عليه العادات والتقاليد العُرفيَّة: "لم أتزوَّج حتّى الآن؛ لعدم وجود الشخص المناسب، وربما النصيب لم يأتِ بعد، والخوف من شخص لا يحترم ولا يقدر الحياة الزوجية".
وتستبعد حنان سعيد، 42 عامًا، وهي ربَّة بيت، فكرة الزَّواج من شخصٍ يحوّل حياتها إلى جحيم، بعد خطبتها، مرَّتين، من شخصين أنهت علاقتها بهما فور تكبّدها مزيد المعاناة، مفضلة العيش حرة دُون قيُود الزَّواج، باحثة عن النَّجاح عوضًا عن مشروع الارتباط، حد تعبيرها.
حياة مفقُودةٌ
وإِلى جوار نجيبة، ومحلية، وحنان، هناك نِّساء عزفنّ عن الارتباط، وأخريات يعانينّ من العُنف في كنفِ الزوج، كما هو حال "وفاء علي" التي تتمنى الانفصال عن زوجها، بعدما تجرعت معه فصُولًا من المعاناة والحرمان لحقوقها منذ أربع سنوات، قبل عودتها، مجددًا، لإكمال تعليمها الجامعي؛ في مُحاولة لاسترداد بعض حياتها المفقُودة.
تقول وفاء، 30 عامًا، - اسم مستعار - لـ"هودج" إن شقيقها، بعد وفاة والدتها، تخلَّص منها بتزويجها من شخصٍ عاشت معه فصولًا مرعبة. تُشير بإصبعها إلى السَّماء: "معاشرته تغضب اللَّه ورسوله"، متمنية أَنْ يكون لديها منزل ومشروع يحتويها وبنتها، ومُشدَّدة، في الوقت نفسه، على صعوبة التفكير برجل آخر؛ لئلا تتكرر التجربة الأليمة.
مواصفات وخوف
وبعكسهنّ جميعًا، لا تزال سُعاد عمر، 40 عامًا، تنتظر الزَّوج المُناسب كشريك لحياتها، تبحث فيه مواصفات تبدو بعيدة المنال في مجتمعِ تطغو عليه العادات والتقاليد العُرفيَّة: "لم أتزوَّج حتّى الآن؛ لعدم وجود الشخص المناسب، وربما النصيب لم يأتِ بعد، والخوف من شخص لا يحترم ولا يقدر الحياة الزوجية".
ومن أسباب هذا العزوف لدى النِّساء، "عدم وجود شريك بمواصفات تحددها المرأة كمسألة شخصيَّة؛ إذ ينطبع لديها هاجس العيش مع نظام أبوي قمعي يُمارس العُنف داخل الأسرَّة، فتقيس التَّجربة على مستقبلها، وهناك نساء يُعِلنّ أسرهنّ؛ فلا يجدنّ مجالًا للتفكير بالزَّواج"، حسبما تقُول الخبيرة في النوع الاجتماعي مها عوض.
تَّفاهُم وحوار
وتلقَّت غزة السامعي مساحة كبيرةً من اهتمام زوجها؛ حيث دفعها لإكمال دراستها الجامعية العُليا، ومساندة مُتكاملةٌ في أمُورهما الشخصيَّة، حتَّى كافح، طيلة عام؛ لتلبيه أمنيتها في الالتحاق بمعهد القضاء الأعْلَى بمحافظة عدن (جنوب اليمن)، التي فشلٌ فيها بنهاية الأمر، قبل تسجيلُها ماجستير بجامعة تعز.
تقُول السامعي، وهي طالبة ماجستير حقُوق بجامعة تعز، إن علاقتُها مع شرِيك حياتها تم بناؤها على التَّفاهُم، والحوار، والرِّضا بين الطَّرفين؛ "فهو يساندني، دومًا، في مسؤولياتي وأعمالي، ولا أنسى وقوفُه معي عندما تقدَّمت لامتحانات معهد القضاء العالي، وأثناء دراستي الماجستير. أنا أَشكُره على ذلك".
ومن أسباب هذا العزوف لدى النِّساء، "عدم وجود شريك بمواصفات تحددها المرأة كمسألة شخصيَّة؛ إذ ينطبع لديها هاجس العيش مع نظام أبوي قمعي يُمارس العُنف داخل الأسرَّة، فتقيس التَّجربة على مستقبلها، وهناك نساء يُعِلنّ أسرهنّ؛ فلا يجدنّ مجالًا للتفكير بالزَّواج"، حسبما تقُول الخبيرة في النوع الاجتماعي مها عوض.
وتضيف عوض لـ"هودج"، وهي، أيضًا، الرئيس التنفيذي لمؤسسة وجود للأمن الإنساني، أنَّ هذه القضايا تظل بعيدة عن البحث والدراسة الاجتماعية؛ بسبب عدم الاهتمام بها، لتنحصر دراستها واستقصاؤها على اعتبارها قضايا شخصيَّة تخُص الفتاة ذاتها.
لَا يتقبلها الرَّجُل
وتعتبر أستاذة علم اجتماع بجامعة تعز، ذكرى العريقي، العزوف نتاج الموروث الثَّقافي التَّقليدي، وقيام بعض النِّساء بأعمال لا يتقبلها الرَّجُل؛ منها العمل في الإعلام، ومنظَّمات المجتمع المدني، والمحلات التِّجارية، الأمر الذي ترفضه العقليَّة عند بعض الذُّكُور الذين لا يتقبلون الزواج بامرأة تخالطُ الرِّجال، لكنَّها تؤكَّد على إمكانيَّةٌ أنْ تجد المرأة الرَّجُل المناسبُ لها، حيث أن الزَّواج شيئًا هامًا في الحياة لتكوين أسرَّة.
وبدأت المرأة تدرك أَنَّ الزَّواج ليس القيام بأعمال المنزل، وتربية الأولاد، وإِنَّما بناء أَسرة مكتملة الأركان، والتَّعاوُن والشراكة بين طرفي الحياة الزوجية، في وقت تتمسَّك المرأة بحقِّها، وترفض أَيّ رجُلٍ قد يحُدَّ من حُريَّتها، وفق "العريقي" التي تنصح، أيضًا، الرِّجال بتحمُّل المسؤُوليَّة نحو أعمال المنزل والأطفال التي أصبحت عبئًا ثقيلًا على كاهل النِّساء.
وبحسب الطَّبيب النفسي عبدالخالق حنده، فإِنَّ ظاهرة عُنف الرَّجُل ضد زوجته مُنتشرةٌ بشكل كبير في اليمن، ويعود ذلك إلى عديد الجوانب المُختلفة من الوعي الثَّقافي بالحياة الزَّوجية، والعادات والتقاليد المترسخة في أذهان الأزواج، وانعدام التَّكافُؤ بين الجانبين؛ حيث يملك الزَّوج سُلطة مُطلقة على زوجته.
وتقُول لـ"هودج" إن التَّمكين الاقتصادي للمرأة مهم لاستقلالها بذاتها، وعدم الاعتماد على الرَّجُل كعائل؛ للتخفيف من العُنف تجاهها؛ وهو ما يجعل النساء يتمسكنّ بالعمل، لكنَّها تشدَّد على ضرورة وجود ورش عمل وندوات حول دور المرأة والرَّجل، ليكونوا شركاء في البيت، والعمل على إيجاد تلك الموازنة بين الأدوار التي لا تُشعِر المرأة بضغط، والرَّجل بانتقاص.
اعتداء وخدمات
وتُؤكِّد مشرفة إدارة الحالات باتحاد نساء اليمن في محافظة عدن، فالنتينا مهدي، وصُول حالات عُنف مختلفة تعرَّضت لها العديد من النِّساء المتزوجات؛ منها الضَّرب، والإهانة، وعدم الإعالة، والطرد، وغيرها من الحالات، ويُقدمُ لهنّ الاتحاد خدمات الدعم النفسي، والصحي، والقانوني، والنقدي الطارئ، وأجواء الأمان.
تضيف لـ"هودج" أَنَّ هناك حالات عُنف يتم رصدها من قبل المُختصَّين، أَو تصلهم للمقر، وتساهم أخصائية نفسية في معرفة الدعم المطلوب لكل قضية قبل تقديمه لها.
وبحسب الطَّبيب النفسي عبدالخالق حنده، فإِنَّ ظاهرة عُنف الرَّجُل ضد زوجته مُنتشرةٌ بشكل كبير في اليمن، ويعود ذلك إلى عديد الجوانب المُختلفة من الوعي الثَّقافي بالحياة الزَّوجية، والعادات والتقاليد المترسخة في أذهان الأزواج، وانعدام التَّكافُؤ بين الجانبين؛ حيث يملك الزَّوج سُلطة مُطلقة على زوجته.
ويُؤكِّد "حنده" لـ"هودج" أن معالجة مثل هذه المشاكل عبر "الإرشاد الزواجي" يساعد على حل كثير منها؛ "حتى نحدد مدى تحقيق النجاح بين الطرفين، قبل الذهاب إلى الطرق النفسية عن العلاج المعرفي السلوكي، والتحليل النفسي".