إصلاح صالح
عقدان ونصف من الزمن منذ أن نذرت نجلاء شمسان نفسها لمهمة توثيق الموروث والأزياء الشعبية اليمنية على نفقتها الخاصة، أعطت دون مقابل، وظلّت تمضي بصمت، ويبوح صمتها عطاءً وإيثارا. تحمل لها واحة العمل الثقافي الكثير من العرفان، فقد رسمت تفانيها بملامح الكفاح والإصرار في حارات مدينة عدن وأزقتها.
لم يحظَ "البيت اليمني للموروث الشعبي" الذي افتتح في العام 1996م بأي دعم مالي أو غير مالي، حيث يعتمد تمويله على ما تقدمه هي من حر مالها مستفيدة من تجاربها وخبرتها الطويلة في الحياة العملية والعلمية، "هذا المتحف عصارة جهد سنين. خصصت جزء صغير له من منزلي لعرض مقتنيات الموروث، ثم توسع إلى نصف المنزل".
وأنت تتنقل بين أقسامه يشعرك كما لو أنك تقوم بالتّنقل بين عصور وحقب تاريخية مختلفة، إلا أن الإقبال عليه اليوم بات محدودًا جدًا بسبب توقف السياحة في البلاد نتيجة الحرب الدائرة فيه منذ 2015م.
كفاح منذ الصغر
ولدت شمسان في حي الشيخ عثمان بمحافظة عدن - جنوب اليمن، في العام 1950م. البنت الوحيدة لوالديها بعد ثلاثة من الذكور. كبرت شمسان في حارة الهاشمي، وفي طفولتها كانت تميل إلى ألعاب الذكور العنيفة، وتستهويها الموالد الدينية، غير أن أغرب هواياتها كانت زيارة أقسام الشرطة.
الكثير من خيبات الأمل كانت تتربص بها عند كل منعطف في مسيرتها المتعلقة بجمع كل ما له علاقة بالموروث الشعبي لتصنع منه متحفها الخاص
درست الابتدائية في مدرسة الميدان في مديرية كريتر، وكانت دائمًا ضمن أوائل الصف. شاركت في ثورتي سبتمبر 1962م وأكتوبر 1963م، ولُقّبت حينها بالحمام الزاجل، "كنت في عمر الـ 12 عامًا عندما كلفتني مدرساتي اللاتي شاركنّ في العمل الثوري بإيصال الرسائل التي تحدد موعد المظاهرات ومسار التحركات. كنت كتومة، حذرة، أنجح دومًا في إيصال الرسالة بسلام".
وفي عمر الـ 14، وخلال دراستها في المرحلة الإعدادية، ومن على مسرح المدرسة دخلت نجلاء عالم التمثيل، "أتذكر أن مدرّساتي في الصف، عديلة بيومي وفوزية غانم، كانتا تأخذاني إلى التلفزيون، وهناك قدمت أدوارًا في مسلسلات منها الجدة رحمة وزنوبة الحلا"، وفي العام 1977م التحقت بكلية التربية في جامعة عدن لدراسة الأدب الإنجليزي.
هواية فعشق!
الكثير من خيبات الأمل كانت تتربص بها عند كل منعطف في مسيرتها المتعلقة بجمع كل ما له علاقة بالموروث الشعبي لتصنع منه متحفها الخاص، إذ لا يمكن أن تكون زيارتك لمدينة عدن قد اكتملت إذا لم تطأ قدماك عتبة البيت اليمني للموروث الشعبي، "بدأ الأمر كهواية قبل أن يتطور إلى عشق وهوية وعنوان"، تقول شمسان.
وكان لموقع المنزل الذي يحتل قلب مديرية التواهي وأمام الميناء دور كبير في توافد السياح، حيث كان يقصده مئات الشغوفين بالتراث من زوار عاديين ومثقفين وباحثين إلى جانب مسؤولين ودبلوماسيين عرب وأجانب. يتجولون داخل المتحف، ويتناولون وجبة الغداء، ويلبسون الأزياء التقليدية لتلتقط لهم الصور مقابل مبلغ رمزي بسيط.
تنوع القطع
استطاعت السيدة العدنية جمع التحف بمساعدة الجوّالة وكبار السن الشغوفين بالاحتفاظ بما ورثوه أبًا عند جد من جميع المحافظات اليمنية، حيث تمنحهم مبالغ مالية، وتعطي لهم حرية التصرف في الشراء كلما وجدوا شيئًا تاريخيًا يهم متحفها.
"هذا المتحف عصارة جهد سنين. خصصت جزء صغير له من منزلي لعرض مقتنيات الموروث، ثم توسع إلى نصف المنزل"
وتتنوع موجودات بيت الموروث من فضيات، وفخار، ونسيج، ومشغولات يدوية، وتحفًا أثرية، وأسلحة قديمة، ورموز للثقافة المعيشية والعادات والتقاليد اليمنية الأصيلة.
وشارك بيت الموروث في عدد من المعارض الثابتة والمتنقلة وورش ومؤتمرات يتم خلالها عرض المقتنيات في صناديق مخصصة لذلك، ويتم شرحها وتعريف الآخر بمنافعها وكيفية استخدامها قديمًا.
حياة حافلة
تنقلت شمسان قبل افتتاح المتحف بين عدة أعمال؛ من مسؤولة القضايا الاجتماعية في اتحاد نساء اليمن، إلى إنشائها أول روضة للأطفال في منطقة الشيخ عثمان، واكتسحت ابنة عدن بمساندة زوجها مجال العمل في ورشة ميكانيك بعد أن كان مقتصرًا على الرجال فقط، وتولت فيما بعد مسؤولية دار العجزة، إضافة إلى فتحها لمصنع للبزّات العسكرية في العاصمة صنعاء، واليوم تقف شامخة كأول امرأة تملك بيتًا للموروث اليمني.
"كنت في عمر الـ 12 عامًا عندما كلفتني مدرساتي اللاتي شاركنّ في العمل الثوري بإيصال الرسائل التي تحدد موعد المظاهرات ومسار التحركات"
وفي إطار ذلك، ترى رئيسة مركز الفنون والثقافة والموروث الشعبي، الأستاذة أنيسة أنيس، أن بيت الموروث هو الهوية الوطنية الباقية والمتمسكة بالتاريخ في وقت دمرت فيه الحرب كل المتاحف والآثار، مؤكدة: "كل شعب له هوية خاصة فيه من الموروث المكتسب من الأجداد، والتي تشكلت عبر عصور طويلة، ومن هنا تكمن أهميتها الإنسانية والوطنية والاجتماعية".
وأضافت: "إن ما يعانيه اليمن اليوم، وبعد ويلات الحرب والتدمير والسرقات، يجعل الهوية الثقافية في خطر كبير، ويعد مشكلة إنسانية وأخلاقية وثقافية لمستقبل الأجيال وركيزة بناء التطور المطلوب للنهوض والتقدم والسلام، والمثل يقول: الذي ما له ماضي ما له حاضر! ويبقى التراث بأشكاله المختلفة الهوية الأساسية لوجود البشر وجغرافية أماكن تواجدها".