صنعاء - زكريا حسان
"نحن هنا نحس بدفء أناملكم وإنسانيتكم، ونجيد الإصغاء للغة القلوب، ونتذوق الجمال، فقدنا البصر لكننا لم نفقد البصيرة، فكونوا لنا العين التي تعكس لنا زرقة البحر، وخضرة المروج، لا تطلبوا منا أن نرصد الأفلاك، أو نكشف عن الكائنات، فكل إنسان ميسر لما خلق له".
بهذه المقدمة، بدأت هناء الغزالي برنامجها الأسبوعي "نحن هنا" على راديو شباب نت برفقة زميلتها "ليزا"، لتطرح وتناقش بكل شغف قضايا تعيشها، وتحس بها وتبحث لها عن حلول، ولتوعي المجتمع بقضايا فئة اجتماعية هامة تتوق إلى الحياة والاندماج مع المجتمع.
بعد اختيار الموضوع بعناية، والإعداد الجيد باستخدام الآلات البركنز، وأوراق برايل، أو المكتبة البلاستيكية، والتنسيق مع الضيوف المرتبطين بقضية الأسبوع، تنطلق "الغزالي" من السكن بحي الدائري بسيارة الأجرة إلى مقر الإذاعة التابعة لاتحاد شباب اليمن بشارع الجزائر، وهي تمتلئ بالحماسة ومشاعر الانتصار.
طفولة قاسية وإصرار على النجاح
تتذكر الغزالي خلال طريقها إلى الأستوديو حلم الطفولة، بأن تكون مذيعة يوما ما، ويصل صوتها إلى الكثير من الناس، بعد أن كانت تحرم من المشاركة في الإذاعة المدرسية، أو الأنشطة الفصلية من قبل المدرسات صاحبات النظرة القاصرة، وتفكر بتلك السنوات التي صمدت فيها وتسلحت بالتحدي والإصرار على النجاح.
لم تكن الغزالي سعيدة في طفولتها، وقضت ما يقارب قرابة خمس سنوات بالعلاج في محافظات تعز و إب وصنعاء ومستشفى الملك خالد بالسعودية الذي أجرت فيه الكثير من العمليات الجراحية لكنها جمعيا بات بالفشل.
كلما كبرت محبة الدراسة في قلبها، خيم الحزن على حياتها، وازدادت في رأسها علامات الاستفهام، وهي تجد الأطفال يذهبون كل صباح إلى المدرسة، ويخرجون للعب والجري، لماذا أنا لا استطيع أن أكون مثلهم؟ ولماذا اختلف عنهم؟ كما تقول لـ"شبكة مكانتي".
وفي عامها الحادي عشر، عادت إلى اليمن لتعيش مع جدتها –والدة الأب- لانفصال الأبوين وكلها إصرار على الدراسة، فذهب بها عمها إلى مدارس حكومية رفضت إداراتها قبولها، إلا أن رغبتها لم تذبل وأمنياتها لم تحبط.
وبعد رحلة شاقة من الكد والعمل، عادت الغزالي لتلتحق بالصف الخامس بتلك المدارس، إلا أنها وجهت بعدم القبول من الطالبات والمعلمات، لكن المعاملة القاسية والرفض لم يفت من عزيمتها، واستطاعت كسر الدائرة التي وجدت نفسها محصورة فيها، وبناء علاقات مع الأخريات، كما تؤكد الغزالي.
تقول الغزالي: كنت أجد نفسي وهوايتي وإنا أشارك في الإذاعة المدرسية وبرامج التوعية، وهذا ما دفعني لأكون من أوائل الذين التحقوا بدراسة الإعلام من قرنائي، بعد التخرج من الثانوية العامة القسم الأدبي في العام 2005، بمعدل 89% وبالترتيب الأول على مدرسة حليمة.
حققت الغزالي الكثير من النجاحات الكبيرة في حياتها وشغلت العديد من الأعمال والمناصب في جمعية الأمان لرعاية الكفيفات، بدأتها بالأعمال التطوعية، ورئيسة لفرع الجمعية بمحافظة إب، ومثلت الجمعية في الكثير من المؤتمرات والفعاليات الخارجية في السعودية وقطر والبحرين ولبنان والأردن وغيرها، وتشغل حاليا منصب مدير المكاتب والفروع ومسئول العلاقات العامة والإعلام بالهيئة الإدارية للجمعية.
رحلة تحدي
تلك هي هناء الغزالي أول إعلامية من الكفيفات، والتي أصيبت بالعمى التام نتيجة مرضها بالحصبة في عامها السادس، مما جعلها تعيش معاناة قاسية لكنها لم تحطمها، وإنما جعلتها أقوى في مواجهة الصعوبات، فبدأت رحلة التحدي بالتحاقها بمركز النور للمكفوفين ومكابدة مشقة التنقل من منزلها بشارع هائل إلى مقر المركز بالصافية بالإضافة إلى الاختلاط بعدد كبير من الفتيان.
إلا أن الحال تحسن كما توضح الغزالي، بانتقالها إلى مركز الشهيد فضل الحلالي الذي توفرت فيه وسائل مواصلات وحظيت باهتمام ورعاية أكثر، وتأهلت بالبرامج الخاصة بالكفيفات، ودرست صفين دراسيين في العام الواحد لتلحق نظرائها بالتعليم العام.
لم تكن الغزالي تستطيع النجاح لولا دعم الراحلة فاطمة العاقل التي أدارت جمعية المكفوفين منذ العام 1993، وأسست معهد الحلالي لتعليم الكفيفات منتصف تسعينيات القرن الماضي وكانت الغزالي من أوائل الطالبات فيه، وجمعية الأمان في يونيو 1999.
وقررت العاقل في العام 1997 بدء مرحلة دمج الطالبات في المدارس الحكومية في أول مراحل الدمج، حتى تدفعهن إلى مواجهة الواقع، وكسر الحواجز والعزلة مع المبصرين، والتحقت الغزالي مع ثلاث كفيفات بمدرستين حكوميتين، كما وفرت سكن خاص للقادمات من المحافظات الأخرى، أو من يعشن بعيدا عن الأسرة.
وبتأسيس وحدة الطباعة بطريقة برايل بجمعية الأمان في العام 2002 تجاوزت الكفيفات مشكلة الكتاب المدرسي واستخدام أشرطة الكاست في الدراسة، كما وفرت العاقل للكفيفات كافة الوسائل التعليمية وبرامج التأهيل بكيفية استخدام الكمبيوتر والآلة الكاتبة، بحسب الغزالي.
صوت يرتفع في الظلام
برنامج "نحن هنا" الذي أعدته وقدمته الغزالي والكواري في العام 2007، على راديو شباب نت الذي تحول فيما بعد إلى راديو شباب إف إم عبارة عن مقابلات مع أصحاب القرار والمرتبطين بقضايا الإعاقة والقضايا الأسرية، كما يستهدف الجمهور بشكل عام بغرض التوعية.
تقول سماح شرهان –إحدى متابعي البرنامج-: البرنامج استطاع تبني القضايا الهامة لذوي الإعاقة لان مقدمتي البرنامج عاشتا المعاناة واستخلصتا القضايا من وقعهما، وحظي بمتابعة جمهور واسع للأساليب المؤثرة والمشوقة التي اتبعتها المذيعتين.
ويتفق معها مدير البرامج بالإذاعة خلال تلك الفترة بشير الضرعي، الذي يوضح أن "نحن هنا" أول برنامج متخصص بقضايا الأشخاص ذوي الإعاقة، وحقق نجاحا كبيرا لان من يعده ويقدمه أشخاص مؤمنين بقضاياهم، والأصدق في التعبير عن صوت هذه الفئة المجتمعية، والأجدر بتحمل المسئولية، علاوة على تمكن المذيعتان من إدارة الحوارات، واختيار المواضيع والشخصيات وغيرها.
ويقول الضرعي وهو مخرج البرنامج أيضا: "لم أجد صعوبة في التعامل والتواصل معهما حيث أنهما أدرتا المساحة بطريقة فاعلة، لكن الصعوبات تمثلت بشحة الإمكانيات المادية لان العاملين في الغالب شباب متطوع، وكنا يواجها مشاكل في توفير المواصلات، لكن إيمانهما وسعيهما لإيصال رسالة ذوي الإعاقة للمجتمع كان الدافع الأكبر للعمل.
عامين من الاستغراق في البرنامج، وطرق قضايا تمس حياة فئة كبيرة من الناس، وجدت فيه المتنفس للتعبير عن احتياجاتها وملامسة مشاعرها، إلا أن هذه النافذة أغلقت لانشغال الغزالي بأعمال أخرى تخدم فيها الكفيفات.
الغزالي أنموذجا لقصة نجاح كبيرة في التغلب عن الواقع وتحدياته، والوصول إلى أحلام وأمنيات استعصت عن المبصرين، وعلى الرغم من كونها كفيفة ولها الكثير من الالتزامات بعملها إلا أن تعيش حياة عائلية سعيدة مع زوجها وطفليها حسام -الصف الثاني الابتدائي- وبيان -عام ونصف- إلى جانب دراسة الماجستير في الأكاديمية اليمنية.