عبداللطيف سالمين
"حياتنا كلها مشقة وتعب، نحن نساء الريف تفاقمت معاناتنا وزادت همومنا، إذ باتت المرأة الريفية في اليمن تحمل همومًا لا حصر لها، إلى جانب التهميش والظلم الذي تعيشه من قبل الحرب وحرمانها الكثير من الفرص والحقوق"، هذا ما قالته ليّ "فطوم"، امرأة في نهاية الثلاثينات من عمرها من ريف إب، وسط اليمن، في حديث عبر الهاتف، إذ عكس صوتُها المرتجف حزنًا وآلامًا وخوفًا تعيشه النساء اليمنيات في الريف بشكل يومي.
وبحسرة امرأة في مقتبل العمر استطردت فطوم: "نغادر أنا ورفيقاتي صوب المزرعة مع طلوع أول خيوط شمس الصباح حاملات معنا كل العدة اللازمة لبدء العمل في الوديان وبين الأشجار والمحاصيل الزراعية، نقوم بنقل المياه بطرق بدائية، ونجتاز مسافات طويلة كي نحصل على المياه والحطب، ولكن لا بد لنا من العمل وإن كانت مهنة الفلاحة غاية في الصعوبة، نعمل كي نعيل أسرنا، ونتحمل المشقة والتعب والجهد في سبيل بحثنا عن لقمة العيش، وكي نسد رمق أطفالنا وكبار السن فينا".
تلتقط أنفاسها لتواصل الحديث: "نكابد الحياة ونتحمل النصيب الأكبر من كارثة الحرب، وحتى لو استقرت البلاد وصار بإمكاننا استقدام فلاحين للعمل في الأرض، سأظل أعمل فلاحة"، مشيرة إلى أنها انسجمت مع بيئتها الحالية ولا ترغب في استبدالها.
صور ممنهجة
تزاحم العديد من النساء في ريف اليمن الرجال في أعمال لا تستطيع أجسادهنّ الهزيلة تحملها بسهولة، لكنهنّ يواجهنّ تلك التحديات بسلاسة لا متناهية بشكل يومي، وقد يفوق أعدادُهنّ أعدادَ الرجال العاملين في هذا القطاع الزراعي الذي يعتبر هو الأكثر استيعابًا للأيدي العاملة في اليمن، وتواجه فيه العديد من نساء ريف اليمن العاملات في مختلف المزارع والحقول صورًا من الاضطهاد والاستغلال الجائر والممنهج من قبل ملاك الأراضي في ظل تقاعس مؤسسات الدولة عن حمايتهنّ، وغياب الدور الذي يمكن أن تلعبه المنظمات غير الحكومية في تحسين معيشتهنّ.
نساء عدة من ريف اليمن تحدثنّ لمنصة "هودج" عن أصناف العذاب التي يواجهنها جراء المعاملة السيئة، واستغلالهنّ في أعمال شاقة مقابل أجور زهيدة مقارنة بالمجهود الكبير الذي يبذلنه، منهن نبيلة سعيد، 42 عامًا، تعمل في إحدى عزل أبين، والتي قالت إنها سئمت من العمل المتعب الملقى على كاهلها، ولولا الحاجة لما أهلكت نفسها في العمل بالمزارع، والتي تدر على أصحابها الملايين، بينما لا يعطى لهنّ سوى الفتات، وتضيف: "يستغل ملاك المزارع أمثالي من النساء الأمّيات، فلا أحد قد يرغب في أن تعمل لديه امرأة أمّية، بل إن بعض الأسر تحرص على عدم تعليم فتياتها كي يعملنّ في الزراعة طيلة مكوثهنّ رفقة أسرهنّ، وحتى أن بعضًا ممن يتزوجنّ يذهبنّ للعمل في الزراعة رفقة أزواجهنّ"، وتتابع: "لا نجرؤ على المطالبة بأدنى حقوقنا أو زيادة الأجر لأن لا أحد يسمع لنا، وقد نتهم بالعصيان جراء ذلك، وتكون النتيجة إما التعنيف أو العمل المضاعف".
حلول ممكنة
وفي هذا السياق، تقول المحامية والناشطة الحقوقية، هدى الصراري، إن النساء في الريف يعشنّ واقعًا مزريًا وسيئًا بسبب تراجع النشاط الزراعي، وفقدان مساحات كبيرة من الأراضي الزراعية الناتج عن التهجير القسري والنزوح، مؤكدة أن المواثيق العالمية واضحة في النص فيما يخص حقوق العاملين من حيث الأجر والحقوق المكتسبة الأخرى، لكن "علينا النظر بدقة أكثر للتشريعات اليمنية فهي الأكثر تطبيقًا ومعمول بها في تحديد الأجور وكيفية التعاقد، وهذا مشرع في القانون المدني والتجاري، لكن لا توجد أي نصوص تشريعية تخص عمل المرأة، على الرغم من أن اليمن موقعة على اتفاقية السيداو، وملزمة بمواءمتها بتشريعاتها الوطنية، لكنها لم تفعل ذلك، وهذه الاتفاقية خصصت موادًا لحقوق المرأة الريفية وكيفية المطالبة بها والحفاظ عليها".
وتطرقت في حديثها عن وجوب نشر الوعي بأهمية تعليم الفتيات، وزيادة عدد المدارس في الريف ورفدها بالكوادر النسوية، وتغيير الأنماط السائدة في المجتمع ونظرة المجتمع للمرأة بشكل عام، إضافة إلى تسهيل حصول النساء على القروض والمشاريع الصغيرة، وتقييم عمل النساء الغير مدفوع الأجر في الناتج القومي، وتوفير ضمان اجتماعي ملائم للعاملات في الاقتصاد الأسري، ودعم مشاريع تنموية تنقص الريف، وتسهيل وصول النساء الريفيات إلى الخدمات الصحية والصحة الإنجابية.
ولفتت الصراي إلى أن النساء يساهمنّ في اقتصاد الإنتاج العائلي إلا أنه غير مقدر نقديًا، و لا ينعكس في حساب الناتج القومي، وحسب التقارير، بلغت الفجوة النوعية بين النساء والرجال في الاقتصاد العائلي بدون أجر مقابل 100 رجل 410 من النساء .
ويعتبر خبراء اجتماعيون أنه على الرغم من الأدوار المتعددة للمرأة الريفية، إلا أن مساهمتها في مؤشرات التنمية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية محدودة للغاية، ويؤكدون أن معالجة التهميش بأنواعه ضدها يكمن في تبني استراتيجية تعليم موجهة وجادة مع تعزيز مشاركتها في مجالات التنمية، مشيرين إلى أهمية إنشاء برامج خاصّة تعمل على تعزيز مشاركة المرأة عبر رؤية واقعية تستلهم تجارب ناجحة من دول العالم الثالث.
معضلة التأنيث والعمل بلا هيكلة
تحديات عدة تواجهها المرأة اليمنية في المناطق الريفية في مختلف محافظات اليمن منذ ما قبل انطلاق الحرب، وذلك بسبب حرمانها من حقوقها الإنسانية الأساسية، لتاتي الحرب وتفاقم من هذه التحديات والمعاناة، وتعد محافظة إب نموذجًا لهذا الإهمال، كونها المحافظة الأكثر حيوية في البلاد من حيث الزراعة والكثافة السكانية، وهناك رابط مشترك بين التحديات الزراعية التي تواجهها محافظة إب وبين قواها العاملة، والتي تتكون غالبيتها من النساء اليمنيات، ومع التحول الذي طرأ على التركيبة السكانية نتيجة الحرب، أصبحت المجتمعات الريفية في اليمن تعتمد بشكل كبير على النساء في العمل الزراعي، وتم تأنيث وتنميط هذه المهنة على النساء لتتحمل المرأة اليمنية وحدها عبء الأعمال الزراعية والاهتمام بالحقول تحت ظروف قاسية وظروف معيشية متدنية فرضتها الحرب، والتي انعكست سلبًا على كافة الأصعدة خاصة في المجتمعات الريفية.
"مقاربة قضايا العمل يجب أن تتم وفق منظور طبقي اجتماعي اقتصادي، وليس وفق منظور جندري صرف، لأن هذا يؤدي إلى تشويشٍ في قراءة وتحليل الظاهرة"
وفي الصدد ذاته، يرى الصحفي والباحث اليمني حسام ردمان أن المرأة اليمنية لم تجبر على المشاركة في أعمال الفلاحة، بل كان هذا تقليدًا عريقًا في كل المجتمعات الزراعية، يتشارك فيه أفراد الأسرة من الذكور والإناث أعباء العمل في الأرض، "ولهذا السبب تشكلت المجتمعات الأمومية في الشرق القديم، حيث كانت المرأة هي القائدة قبل أن نتحول إلى المجتمع الذكوري بسبب نشوء الدولة وبروز مهنة الحرب".
ويضيف ردمان: "لا يزلنّ النساء الريفيات في اليمن يعملنّ في أرضهنّ وهذا أمر طبيعي، لكن فلنقل أن النساء يواجهنّ مشقة كبيرة وليس استغلال، متى حدث الاستغلال، عندما جاءت تجربة اليمن الديمقراطية في الجنوب تم تمليك الأرض للتعاونيات، وهنا كانت المرأة العاملة في المزرعة هي أيضًا مالكة للأرض، لكن بعد أن جرى إحداث هندسة طبقية وإعادة ما يشبه الإقطاع في الجنوب، أصبح عدد كبير من النساء يعملنّ في الريف بأجر يومي، وهم بذلك مُستغلات مثلهن مثل الرجال" .
نظرة مستقبلية
وعن إمكانية خلق واقع يسوده المساواة بين الرجل والمرأة في المستقبل في الريف اليمني، يعتقد ردمان أن مطلب المساواة الجندرية هو مفهوم ينتمي إلى المجتمعات المدينية، لذا يصعب الحديث عن مساواة شاملة في الريف، لكن، وبحسب قوله، يمكن الحديث عن تحسين لشروط العيش بالريف، أو عن مشروع للتنمية في الريف تستفيد منه النساء مثل الرجال.
ويتابع ردمان: "أعتقد أن مقاربة قضايا العمل يجب أن تتم وفق منظور طبقي اجتماعي اقتصادي، وليس وفق منظور جندري صرف، لأن هذا يؤدي إلى تشويشٍ في قراءة وتحليل الظاهرة، ولا يمكن فصل معاناة المرأة الريفية اليمنية عن معاناة الرجل الريفي العامل في الزراعة، وتمكين المرأة في الريف يكون من خلال التنمية المستدامة التي تساعد على خلق فرص العمل ومضاعفة الإنتاج ونشر التعليم".