الكاتب محمد الاصبحي

لأني قوية انتصرت لكل النساء تُولد الفتيات في قريتي وفي انتظارهن قنينة ،فأجسادهن الطرية تُعامل معاملة الماء السائل الذي يجب أن يأخذ شكل إناء العادات والتقاليد الذي سيحتويه. لكني لم يرق لي أن أُعامل معاملة قطعة أثاث ،تُصنع وقد حُددت ماهيتها مسبقًا. بل تجرأت على عادات مجتمعي الذي يرى بأني أقل من أن أنُصف لأني لم أُخلق ذكرًا. أنا ابتهال الكوماني ،من محافظة ذمار ،مديرية الحدا ،عمري 28 عاما ،وفي جعبتي قصة ،أنا بطلتها. قررتُ في الصف التاسع الأساسي ،أن أصبح محامية ،لكن لم يأخذ أحد قراري على محمل الجد ،فالفتاة في المجتمع القبلي لا تخالط الرجال في المحاكم عندما تكبر ،كما لا تلعب كرة القدم وهي طفلة! أنهيت تعليمي الثانوي ،والتحقت بكلية الشريعة والقانون في جامعة ذمار ،حيث كلفني تقييد اسمي هناك استمارة الثانوية العامة وست صور ،وكلف والدي القطيعة من نصف عائلته التي رأت أن من البدعة أن أكون من أوائل الفتيات اللاتي لم يعبنَّ بأن كلية الشريعة والقانون في محافظة ذمار مخصصة" للرجال فقط" ،وكل بدعة ضلاله... وفي نهاية العام 2018 ،تخرجت من الجامعة بدرجة امتياز مع مرتبة الشرف ،أهداني والدي عقد فل ،وأهداني أعمامي معارضة شديدة لكي لا أخطو خطوتي التالية... مبنى المحكمة. أخبرت أبي أن لا فائدة من الجناحين اللذين جاهدتُ على تقويتهما طيلة أربع أعوام من الدراسة إن لم أجرب التحليق بهما ،أرشدني أبي لسماء المحكمة ،وبذلك خسر جزءًا آخر من أفراد عائلته . في المحكمة قابلت الرجل الرافض لوجودي بجانبه ،مالم أكن ضحية ،لكن ذلك خلق لدي دافعًا أكبر لأن أتواجد في كل الأماكن التي تعزز من قوتي . انضممت لمجموعة من الناشطين الحقوقيين المناصرين لقضايا المجتمع ،كنت المرأة الوحيدة بين قرابة عشرين رجلًا ،أردت أن أوصل رسالة للمجتمع بأن المرأة قوية وتصلح لكل شيء. حتى العام 2022 كنت امرأة منقبة ،أرى العالم بنسبة وضوح تقل عن الحد الطبيعي ،ولأني مؤمنة بأن وجودي وهويتي ينعكسان في صورة وجهي ،ولا أرى ما يدفعني لأن أخفي ملامحي عن الشخص الذي سلمني قضيته التي قد تعني له الحياة ،نزعت النقاب وأنا أعي جيدًا بأني أمارس حقي ،ولا فضل لأحد عليَّ. وعند هذا المنعطف خسر والداي الداعمين لي ما تبقى لهما من صلات بالعائلة. ولأني امرأة أبعد ما أكون عن التناقض ،قمت بتحديث صورة ملفي الشخصي على تطبيق فيسبوك وأنا كاشفة عن وجهي. الجميع أبدأ رأيه في الأمر وكأنه يتحدث عن مسألته الشخصية ،وليت الأمر انتهى بإبداء الرأي فقط ،ففي ظرف يومين صحوت من النوم وأنا امرأة قتلت زوجها وقطعت جثته. تم استغلال صورتي الشخصية ،وأُضيف لها التعليق الآتي بالحرف "بعد أيام من نزعها الحجاب ،ابتهال الكوماني تقتل زوجها وتقطع جثته..." وتم تداول الشائعة بشكل واسع جدًا ،فالقضية كانت صحيحة ،لكن لا أعلم كيف أصبحت أنا بطلتها. فاتحت والداي بالأمر ،أخبراني بسر لم أكن أجهله "أنت قوية ،وستجتازين الأمر" ولأني قوية فعلًا اجتزتُ الأمر ،بعد أن رفعت دعوى وعرفت من بدأ الشائعة . كل ما حدث في حياتي حتى اللحظة كان من أجل تهيئتي للتحدي الأكبر ،والذي أثر في نفسيتي كثيرًا للحد الذي جعلني أتسائل "هل تجاوزت حد القوة الذي يمكن لامرأة أن تحتمله فعلًا؟" مع بداية شهر أغسطس 2023 لمحت وأنا أتصفح تطبيق واتساب رقمًا لم أعهد أن صاحبه مر عليَّ ولو صدفة في الطريق ،كان صندوق الرسائل مليء إلى الحد الذي خُيل لي بأني إن لم أفرغه سيفيض. في البداية عرف عن اسمه الثلاثي ومن ثم أسهب بكتابة رسائل من نوع " هذه عمارتي ،وتلك أوراق ثبوت ملكيتي لها" و"أرغب بالزواج منك...إلخ" تجاهلته وقمت بحظر الرقم ،وهنا كانت بداية رحلة مع الألم النفسي والتشهير استمرت لأكثر من ثلاثة أشهر. تعبت أصابعي من حظر الرقم تلو الآخر ،التي كان يظهر لي من خلالها ،يهددني تارة بالقتل ،وبتشويه سمعتي تارة أخرى ،لم يترك طريقًا لأذيتي إلا سلكه ،ووصل إلى صديقاتي وزملائي في العمل ،هددهم وسبهم وقذفهم بكل جبن من وراء شاشته ،ولم يكتفي بذلك ،بل أنشأ حساب فيسبوك باسمي ،وسوق من خلاله فكرة أني أتاجر بالخمور والجنس. تعاملت مع الأمر بشكل قانوني رغم نفسيتي المدمرة ،واستعنت بأصدقاء مختصين بالأمن الرقمي ،ومن ثم قدمت بلاغًا لقسم الشرطة مصحوبًا بكل الأدلة التي حرصت على توثيقها طيلة فترة الابتزاز ،وبعد أيام من محاولة الإمساك به دون جدوى ،نقلت قضيتي للبحث الجنائي. كل ذلك لم يوقفه ،وجعله أكثر أذىً ،لدرجة أنه وظف كل وقته لينتقم مني على جرم أجهل ماهيته. بدأ استعمال اسمي وصورتي لجبي المال ،أنهرت أكثر وشككت في كل شيء ،وراودتني أفكار من قبيل "ليس عدلًا ما يحدث" و"كيف يمكن لشخص أن يؤذي شخصًا لا يعرفه". مع مرور الوقت شعرت برغبة بالاستسلام ،لكن تذكرت بأن القضية لم تعد قضيتي وحدي ،بل قضية آلاف النساء اللاتي يجب أن أمثلهن بكل إصرار ،وبعد ثلاثة أشهر تم القبض عليه ،حينها شعرت ببعض الإنصاف ، لكني لم أكتفي بذلك ،بل كنت أول امرأة في محافظة ذمار ترفع دعوى في المحكمة بقضية ابتزاز الكتروني ،وترافعت عن قضيتي بنفسي ،ودافعت عني وعن أخريات كان قد ابتزهن أيضًا. وفي نهاية المطاف حصلت على حكم قضائي لصالحي ،وشعرت بأن السماء قد أنصفت كل نساء ذمار اللاتي تعرضن للابتزاز ،من خلالي. ختامًا ،لأني قوية لم استسلم لعادات المجتمع الذي أرادني أن أبقى نحلة ،كلماتي إبرتي ،ما أن أتفوه بها ...أموت! بل جلجلت بكلماتي قاعات المحكمة وانتزعت نصرًا أهديه لكل النساء. محمد الأصبحي 4 ديسمبر 2024