كتبت/ فاطمة رشاد
لم تكن نجاة يوسف تعلم ما تخبئه لها الأقدار حين ارتدت ملابسها وعباءتها السوداء، وتوجهت إلى المستشفى الذي تعمل به، لتأدية نوبتها الليلية، وهي تحمل ملف أحد المرضى. لم تكن تعلم أن تلك اللحظة غيرت مجرى حياتها للأبد.
في ظلام دامس، ظنت نجاة أن انقطاع الكهرباء هو سبب العتمة المفاجئة، لكنها سرعان ما اكتشفت الحقيقة المؤلمة: "لا ترى شيئاً سوى الظلام الدامس".
حاولت الوصول إلى مفتاح النور عبثاً، وارتفع صوتها بالصراخ طلباً للمساعدة، وجاء أحد زملائها في العمل ليستفسر عما حدث، فأخبرته بصدمة أنها لم تعد ترى شيئاً. ذُهل زميلها، فقد كانت قبل ثوانٍ فقط تتمتع بنظر طبيعي، وفي تلك اللحظة، تحول إلى أول مرشد في رحلتها الجديدة، يساعدها على "إبصار" طريقها في عالم لم يعد كما كان.
رحلة النور
كانت نجاة تعمل في مستشفى أطباء بلا حدود في مدينة الحديدة الواقعة على ساحل البحر الأحمر. عاشت سنواتها تتجرع ويلات الفقد تدريجياً؛ إذ فقدت والدها في سن مبكرة، واضطرت لتحمل مسؤولية أسرتها، خاصة وأن والدها كان يعمل بالأجر اليومي، ولم يترك لهم مصدر دخل.
تقول نجاة لمنصة هودج: "تحملت مسؤولية فرضت عليَّ رغماً عني، ولم أكن أدرك أنني في يوم من الأيام سأفقد بصري أيضاً، ويصبح النور الذي أسير عليه هو بصيرة قلبي".
نجاة خريجة دبلوم مساعد طبيب بنظام ثلاث سنوات، وخلال دراستها في الجامعة أصيبت بالتهاب العصب البصري، وتحملت تكاليف العلاج والسفر، وتحسنت حالتها لفترة واستمرت على هذا النحو حتى الليلة التي فقدت فيها بصرها، مما أدخلها في رحلة علاج طويلة لم تنتهِ حتى يومنا هذا.
تقول: "في رحلة علاجي اكتشفت أن تشخيص حالتي كان خطأً؛ فقد تم تشخيصي بتصلب لويحي".
هذا التشخيص جعلها تفقد الثقة بالطب اليمني، ما دفعها للسفر إلى الخارج لمواصلة علاجها، ومع تدهور حالتها فقدت عملها في منظمة أطباء بلا حدود، وهو المصدر الأساسي لدخلها. الصدمة النفسية والصحية التي تعرضت لها أدت إلى إصابتها بالشلل المؤقت.
وبعد جمع أموال التأمين، سافرت نجاة إلى مصر لتلقي العلاج، وهناك علمت من أحد الأطباء أنها مصابة بمرض التهاب النخاع والعصب البصري،"NMO" هو مرض مناعي ذاتي نادر، وتم وصف جرعات علاجية لها كل ستة أشهر، بالإضافة إلى أربع إبر تبلغ قيمتها مليون وثلاثمائة ألف ريال، ما يعادل 675 دولار.
وبحسب تقارير صحية عن الأسباب التي تؤدي إلى فقدان البصر، فإن أهم الأسباب هي حسب ما أوردته منظمة الصحة العالمية أنه يتمثل في خطأ الانكسار، وهي حالة تحدث نتيجة لوجود خطأ في شكل العين، إذ يمنع شكل العين الضوء من التركيز بشكل صحيح على شبكية العين، وهي من أكثر المشاكل شيوعًا: مرض الساد أو إعتام عدسة العين، وكذلك الزَرَق "لماء الأزرق"، أو الجلوكوما، وعتامة القرنية واعتلال الشبكية السكري.
في تقرير لمنظمة الصحة العالمية، أشارت إلى أن عدد المعاقين بصرياً في مستوى العالم بلغ 180 مليون شخص، وبحسب جمعية رعاية المكفوفين في مدينة عدن، فإن عدد المكفوفات المنتسبات إليها بلغ عددهن 145 مكفوفة وفق آخر حصر لعام 2024.
بصيص نور
نجحت نجاة في تجاوز فقدان البصر وانضمت إلى عضوية الجمعية، والتحقت بدورة الحاسوب التي كانت من أكثر المجالات قرباً واهتماماً لها.
تقول مديرة المشاريع والأنشطة في جمعية رعاية وتأهيل المكفوفين بعدن، مروة السقاف، في حديثها لمنصة هودج إنهم يقوم في الجمعية بتقديم التدريبات التي تساعد الكفيف على تجاوز إعاقته البصرية؛ إذ قاموا بإعداد دورة تعليم طريقة برايل، والأشغال اليدوية.
وأضافت: "نسعى إلى أخذ يد الكفيفة نحو النور، ونعلمها كيف تندمج في المجتمع من خلال تنمية مهاراتها وقدراتها، وتخطي النظرة الدونية التي قد تواجهها، فالكفيف لديه الطموح ويملك القدرة على تحدي نفسه وإعاقته من خلال التعلم، ولدينا في الجمعية نماذج مشرفة تخطت مراحل كبيرة من التحصيل العلمي واندمجت مع المجتمع".
ويشاركها الحديث الأمين العام لجمعية رعاية وتأهيل المكفوفين، محمد سلطان، قائلاً: "الكفيف يستطيع تغيير النظرة السلبية التي يوجهها من خلال تقبله لذاته، وأن الإعاقة ليست عائقاً للوصول إلى الأهداف، وأن على المجتمع أن يعي أن الكفيفة قادرة على ممارسة حياتها بشكل طبيعي، سواء من خلال التعلم، الزواج، أو العمل".
عندما التحقت نجاة بالجمعية، وجدت أن هناك كفيفات مثلها تمكنّ من اجتياز فقدان البصر وتحدي النظرة الدونية التي عشن معها، وتركن كل شيء خلفهن ليواصلن حياتهن ورحلة كفاحهن.
فالعديد من الكفيفات يرفضن أن يُنظر إليهن بنظرة الشفقة والرحمة، ويسعدن عندما يتعامل المجتمع معهن بشكل طبيعي، فهن يستحقن أن يكنَّ زوجات، أمهات، ونساء عاملات يتمتعن بحقهن في فرص عمل متكافئة مع الأصحاء.
كفل القانون اليمني هذا الحق للكفيفات، حيث تنص المادة (18) من القانون رقم (61) لسنة 1999م على تخصيص نسبة 5٪ من الوظائف الشاغرة في الجهاز الإداري للدولة، ووحدات القطاعين العام والخاص والمختلط، للأشخاص المعاقين الحاصلين على شهادات تأهيل.
لم تسلم الكفيفة من التنمر الذي تواجهه في المجتمع، فهناك من تعرضت لتعليقات سلبية أو كلمات هامسة عندما تخرج من بيتها، تاركة أثراً سلبياً في داخلها، لكن الكثير منهن رفضن الاستسلام لهذه التجارب المؤلمة، وأكملن تعليمهن الجامعي وواصلن حياتهن.
منار محمد كفيفة تزوجت قبل عام، تقول: "أسرتي كانت الداعم الأكبر لي طوال حياتي، وأمي ساعدتني كثيراً أثناء دراستي الجامعية، خاصة في تسجيل المحاضرات".
وتواصل في حديثها لمنصة هودج: "الكفيفة لها الحق في الزواج مثل أي شخص آخر، وزوجي أيضاً كفيف، ولا يجب أن يُنظر إليها على أنها غير قادرة على أن تكون زوجة، فالكثيرون يجهلون أنها تستطيع القيام بأعمال كثيرة، وأن هناك الكثير من الكفيفات يقمن بالأعمال المنزلية كما لو كن مبصرات، الإعاقة الحقيقية ليست في الجسد، بل في العقل".
القادم أفضل
منذ عدة أشهر، تولت نجاة يوسف منصباً إدارياً في جمعية الوفاء للكفيفات بعدن، وأصبحت المسؤولة عن دائرة الرقابة والتفتيش؛ إذ تقول: "أشعر بأن القادم أفضل، وأن عزيمتي لن توقفها أي حواجز يفرضها المجتمع، وأثق أن النور الذي في قلبي هو ما يهديني لتجاوز كل العراقيل التي أوجهها".
تضيف نجاة: "ما أريده هو أن تلتفت إليّ بعض الجهات المعنية لتوفير جرعتي من العلاج، ولربما تحدث معجزة إلهية وأبصر النور مرة أخرى".